النجاة لا تكون إلا لصاحب القلب السليم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
قال رحمه الله تعالى: لا ينجو غدا إلا من لقي الله بقلب سليم ليس فيه سواه، قال الله -تعالى-: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾1
.
القلب السليم هو الطاهر من أدناس المخالفات، فأما المتلطخ بشيء من المكروهات فلا يصلح لمجاورة حضرة القدس -أو القدوس، "حضره القدس" هذه العبارة، وبهذه العبارة الدارجة في اللسان من يتكلم بهذه الكلمة-
فلا يصلح لمجاورة حضرة القدس إلا بعد أن يطهر في كير العذاب، فإذا زال منه الخبث صلح حينئذ للمجاورة؛ إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، فأما القلوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأمر: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾2 ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾3 .
ومن لم يحرق اليوم قلبه بنار الأسف على ما سلف، أو بنار الشوق بلقاء الحبيب -فنار جهنم له أشد حرا، ما يحتاج إلى التطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل تحقيق التوحيد والقيام بحقوقه،.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ورسوله، وعلى أهله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
يقول المؤلف: "لا ينجو من عذاب الله يوم القيامة إلا صاحب القلب السليم" نعم، قال الله -سبحانه وتعالى-: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾1 هذا جاء في ثنايا قصة إبراهيم ودعاء إبراهيم: ﴿ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾4 .
ومن بديع المناسبات أن الله أخبر عن إبراهيم أيضا بسلامة القلب: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾5 فالقلب السليم جاء في هذين الموضوعين كليهما، يعني: الأولى في كلام إبراهيم، والثانية في وصف الله لإبراهيم.
والقلب السليم، سليم: صيغة تدل على السلامة، ضد العليل وضد المريض، سليم سالم، يقول النسائى: القلب السليم هو السالم من المخالفات، المخالفات: مخالفات الأوامر والنواهي، بترك مأمور، أو فعل محذور، هذه هي المخالفات.
فلا ينجو من عذاب الله نجاة مطلقة بحيث لا يناله عذاب إلا صاحب القلب السليم، من أتى الله بقلب سليم فهذا هو الذي ينجو، لا يتعرض للعذاب، لا يتعرض لشيء من العذاب لسلامة قلبه، وعلى هذا فيدخل الجنة من أول وهلة.
فأشار المؤلف إلى نوع من سلامة القلب، وقد يقال: إن كلامه شامل، لكن لعله مما يوضح المقام ما ذكره العلامة ابن القيم في مواضع من كتبه، ولا سيما في "إغاثة اللهفان" فإنه عُني بالكلام على أقسام القلوب، فينبغي أن تراجع تلك الأبواب.
ومما جاء في كلامه: أن القلب السليم: هو السالم من فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الشهوات التي تعارض أمر الله، الشهوات تعارض الأمر والنهي، وفتن الشبهات التي تعارض خبر الله، ففتن الشهوات تحمل على المعصية والمخالفة، بترك المأمور وفعل المحذور، والشبهات تضعف اليقين، أو تورث الشك فيما أخبر الله به ورسوله.
إذن فالقلب السليم لا بد أن يسلم اعتقاده من عوارض الشبهات، وتسلم إرادته من عوارض الشهوات، فالقلوب أقسام: فيها القلب السليم، والقلب المريض، والقلب الميت، الميت الذي لا حس ولا إرادة ولا حركة -ميت-، وهو قلب كافر.
القلب الميت هو القلب الكافر، والقلب السليم هو القلب المؤمن كامل الإيمان، والمريض هو القلب المخلط الذي فيه مادتان: مادة الحياة، ومادة مرض أو مادة موت، وهو لما غلب عليه منهما.
في الحديث الصحيح: « تعرض الفتن على القلوب عودا عودا كعرض الحصير، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب إلى قلبين: قلب أبيض فيه السواد +يصغر، وقلب أسود مرباد كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أصيب من هواه »6 .
ومن أمراض القلوب التي تبعث علي الشهوات وهي كثيرة: منها الرياء، الرياء: وهو أن يعمل الإنسان العمل مما يحب الله، ومما شرع الله؛ ليراه الناس وليقول فيه الناس: كذا وكذا، يعني: للمحمده -نعوذ بالله-، وهذا مرض خطير، نسأل الله أن يعفينا وإياكم منه.
نسأل الله أن يطهر القلوب -لا إله إلا الله-؛ ولهذا جاء في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: « أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء »7 مخوف.
وفي المسائل التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب استنباطا من نصوص باب الخوف من الشرك -أن الرياء أخوف ما يُخاف على الصالحين الرياء، فعلى الإنسان أن يتقيه وأن يأخذ بالأسباب الواقية منه، وأن يسأل ربه أن يعصمه من الشرك كله: صغيره وكبيره، ظاهره و خفيه.
الرياء شرك أصغر وخفي، فالقلب السليم هو الذي سلم من هذه الآفات: الرياء وغيرها من أمراض القلوب، فللقلوب أمراض: الكبر، والحسد، الرياء، سوء الظن -سوء الظن بالله-، الظنون الكاذبة، الغش، أمراض، أمراض قلبية معنوية كلها تنافي سلامة القلب.
لكن قد تصل إلى أن يموت بها القلب فيصير ميتا، وقد يصير مريضا ثم يصح، وقد يبقى مريضا، فالقلوب هكذا، فأحوال القلوب تشبه أحوال الأبدان، وكما أن الأبدان -هكذا- تعرض لها العوارض: منها المريض، ومنها الصحيح، ومنها المريض، والأمراض تختلف: مرض -يعني- معضل ربما يفضي بصاحبه إلى الموت، كذلك أمراض القلوب، نسأل الله العافية، ونعوذ بالله، لا إله إلا الله.
1 : سورة الشعراء (سورة رقم: 26)؛ آية رقم:88 - 89
2 : سورة الزمر (سورة رقم: 39)؛ آية رقم:73
3 : سورة النحل (سورة رقم: 16)؛ آية رقم:32
4 : سورة الشعراء (سورة رقم: 26)؛ آية رقم:85 - 89
5 : سورة الصافات (سورة رقم: 37)؛ آية رقم:83 - 84
6 : مسلم : الإيمان (144) , وأحمد (5/386).
7 : أحمد (5/428).