بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم يا ربنا تسليما كثيرا، ثم أما بعد .
سورة الناس فقد تضمنت أيضاً: مستعاذاً به ومستعاذاً منه ومستعيذاً.
فأما المستعاذ به: فهو الله رب الناس ملك الناس إله الناس، فذكر ربوبتيه للناس وملكه إياهم وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، فأضافهم في الكلمة الأولى إلى ربوبيته المتضمنة لخلقهم وتربيتهم وتدبيرهم وإصلاحهم مما يفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمن قدره التامة ورحمته الواسعة، وعلمه بتفاصيل أحوالهم وبإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم، وأضافهم في الكلمة الثانية إلى ملكه، فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم في الشدائد والنوائب، فلا صلاح ولا قيام إلا به، وأضافهم في الكلمة الثالثة إلى إلهيته، فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله سواه ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشاركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكاً في إلهيته، كما لا معه شريك في ربوبيته وملكه.
وهذه طريقة القرآن ؛ يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، فإذا كان هو ربنا ومليكنا فلا مفرع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره ـ فلا ينبغي أن يُدعى ولا يُخاف ولا يُرجى ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه ؛ لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه: إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك، فهو ربك فلا رب لك سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقًا وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى روحك وحياتك، وهو الإله الحق إلا الناس الذي لا إله لهم سواه، فهو جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه. فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة.
ثم إنه سبحانه كرر الاسم الظاهر ولم يوقع المضمر موقعه، فيقول رب الناس ومَلِكَهُم وإلههم تحقيقاً بهذا المعنى، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه ولم يعطف بالواو لما فيها معنى الإيذان بالمغايرة، وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب، وأخّر الإلهية لخصوصها؛ لأنه سبحان إنما هو إله من عبده و وحّده واتخذه إلهاً دون غيره، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله سواه ولكن ترك إلهه الحق واتخذ إلهًا غيره.
وَوَسّط صفة المَلك بين الربوبية والإلهية؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، المطاع إذا أمر، فملكه لهم تابع لخلفه إياهم، فملكهم من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وملكه يستلزم إلهيته، فهو الرب الملك الإله، خلقهم بالربوبية وقهرهم بالملك واستعبدهم بالإلهية، فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق: رب الناس، ملك الناس، إله الناس.
وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاثة على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معنى جميع أسمائه الحسنى:
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى، فإن الرب: هو القادر الخالق البارىء المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن المنعم الجواد المعطي المقدم المؤخر، يهدي ويضل ويّسعد ويشقي ويعز ويذل، إلى غير ذلك من معاني الربوبية.
وأما المَلك: فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمر عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء، فهو العزيز الجبار المتكبر الخافض الرافع المعز الذل العظيم الجليل الوالي المتعالي الملك المقسط الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك.
وأما الإله: فهو الجامع لصفات الكمال و الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح: إن الله أصله الإله، وإن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأسرار كلام الله تعالى أجلّ وأعظم من أن تدركها عقول البشر، وإنما غاية أولى العلم الاستدلال بما يظهر منها على ما وراءه.
وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي، وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة، فسورة الفلق تضمنت: الاستعاذة من ظلم الغير بالسحر والحسد، وهو شر من خارج، وسورة الناس تضمنت، الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شر من داخل.
فالشر الأول: لا يدخل تحت التكليف ولا يُطلب منه الكف عنه؛ لأنه ليس من كسبه.
فالشر الثاني: الذي في سورة الناس يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي، فهذا شر المعائب، والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما، فتضمنت سورة الناس الاستعاذة من شر العيوب كلها ؛ لأن أصلها كلها الوسوسة، وأصل الوسوسة الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يُحسن فيتحرز منه.
والوسواس: الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد.
و الوسواس الخناس: وصفان لموصوف غير ظاهر، وهو الشيطان، فالوسواس: الشيطان لأنه كثير الوسوسة، وأما الخناس فهو فعّال من خنس يخنس إذا توارىواختفى.
فإن العبد إذا أغفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان، وبذر فيه الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها، فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس، والانخناس تأخر ورجوع معه اختفاء.
فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً لأنه يعذبه بذكر الله وطاعته. في أثر عن بعض السلف: ( أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيه في السفر ) ؛ لأنه كلما اعترضه صبَّ عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. وأما شيطان الفاجر فهو معه في راحة ودعه، ولهذا يكون قويًا عاتيًا شديدًا، فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله وتوحيده وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار، فلابد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يُعذبه شيطانه.
وقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، صفة أخرى للشيطان، فذكر وسوسته أولاً ثم ذكر محلها ثانيًا وأنها في صدور الناس. وقد جعل الله للشيطان دخولاً في جوف العبد ونفوذًا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدم وقد وكل العبد فلا يفارقه إلى الممات. ومن وسوسته أن يشغل القلب بحديثه عن صاحب موسى: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِي إِلَّا الشَّيْطَانُ [الكهف:63].
ومن شره أيضا أنه يعقد على رأس العبد إذا نام عُقدة تمنعه من اليقظة، كما في صحيح البخاري: " يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نائم ثلاث عقد" الحديث. ومن شره أنه يبول ف أذن العبد حتى ينام إلى الصباح. ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها. ويكفي من شره أنه أقسم ليأتينّه من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فلا خلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده، ولا يمكن حصر أجناس شرّه فضلاً عن آحادها إذا كل شر في العالم فهو السبب فيه، ولكن ينحصر شره في ستة أجناس:
الشر الأول: الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر بذلك بابن آدم استراح، وهو أول ما يريد من العبد،فإن يئس منه من ذلك وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى
المرتبة الثانية من الشر وهي: البدعة: وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها متعدٍ وهو ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، فإذن نال منه البدعة وجعله من أهلها صار نائباً له وداعياً من دعاته، فإن أعجز من هذه المرتبة نقله إلى
المرتبة الثالثة وهي: الكبائر: على اختلاف أنواعها: فهو أشد حرصاً على أ ن يوقعه فيها، فإن عجز عنه هذه المرتبة نقله إلى
المرتبة الرابعة وهي: الصغائر: التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي : " إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض "، وذكر حديثاً معناه أن كل أحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا ناراً عظيمة فطبخوا. ولا يزال يسهل عليهم أمر الصغائر حتى يستهينوا بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف أحسن حالاً منه، فإن عجزه العبد في هذه المرتبة نقله إلى
المرتبة الخامسة وهي: اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب: بل عاقبتها فوات الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها، فإن أعجزه العبد في هذه المرتبة وكان حافظاً لوقته شحيحاً به يعلم أنه مقدار أنفاسه وانقطاعها ومايقابلها من النعيم والعذاب، نقله إلى
المرتبة السادسة وهي:أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه: ليفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفضل الخير المفضول ويحضه عليه إذا تضمن ترك ما هو أفضل منه، وقلّ من ينتبه لهذا من الناس، فإنه إذا رأى فيه داعياً قوياً إلى نوع من الطاعة فإنه لا يكاد يقول: هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير ولم يعلم أن الشيطان يأمره بسبعين باباً من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيراً أعظم من تلك السبعين باباً وأجل وأفضل.
فإذا أعجزه العبد في هذه المراتب سلط عليه حزبه من الإنس ..
وقوله تعالى: " مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ " اختلف الناس في هذا الجار والمجرور، بم يتعلق فقال الفرَّاء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم أي أن الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن، فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي، وهذا القول ضعيف جداً لوجوه منها: أن لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني ويدخل فيه كما يدخل في الإنس، والناس: اسم لبنى آدم فلا يدخل الجن في مسماهم.
والصواب القول الثاني وهو: أن قوله من الجنة بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان، إنس وجن، فالجني يوسوس في صدر الإنسي والإنسي يوسوس إلى الإنسي. فالموسوس نوعان: إنسي، وجني، فإن الوسوسة: هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي و وسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى الواسطة ؛ لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم..
والله أعلم
السلام عليكم